قالت تعــالي في كتابه العزيز:
((
ولقد أتينا لقمان الحكمة أن أشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر
فإن الله غني حميد , وإذا قال لقمان لإبنه وو يعظه يابني لا تشرك بالله إن
الشرك لظلم عظيم , ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله
في عامين أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير, وإن جاهداك على أن تشرك بي
ماليس لك به علم فلا تطعهما صاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب
إلي ثم إلي مرجكم فأنبئكم بما كنتم تعلمون, يا بني إنها إن تك مثقال حبة
من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله لطيف خبير,
يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن
ذلك من عزم الأمور , ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا
يحب كل مختال فخور, واقصد في مشيك واغضض من صوتك أن أنكر الأصوات لصوت
الحمير))
في قلب القارة الأفريقية ولد ونشأ الطفل (( لقمان)) أسود البشرة أفطس الأنف , غليظ الشفتين أجعد الشعر .. قصير القامة ...
كان
يغدو في الغابات ذات الشحر الباسق , ويتسلق الجبال الوعرة , ويطوف كثيرا ,
حافي القدمين.. نصف عار, لذا تشققت قدماه واتسغلظ عوده , فشب قويا متينا
... , كما زادته مواجهة الحيوانات الضارية صلابة وجرأة وإقداما.
وكان
هو في ميعة الصبا, وفي أثناء تجواله , دائم الفكر والنظر والتأمل ..., في
الطبيعة ... وحركة الكون .., والحيوان ..., والطير وكل شيء يقع عليه نظره
ويستلف انتباهه.....
وفي ذات يوم وبينما كان لقمان على عادته في
طوافه في الأدغال , شعر بالإرهاق يتسلل إلى جسمه ويدب في أوصاله , فجلس في
ظل شجرة ليستريح وليستعيد نشاطه.
لكن النعاس غلبه , فأطبق جفنيه واستسلم للكرى ..., وراح في سبات عميق.
وجاءه
في منامه ملك من عند الله تعالى يبشره بالاختيار والاصطفاء وخيره بين
النبوة والحكمة ...,فاختار الحكمة خوفا من أن لا يطبق أعباء النبوة ...
وفتح عينه بعد ذلك ...
فإاذا المرئيات والمشاهدات الحسية هي هي .. ولكن نظرته إليها تبدلت وتغيرت , وأحكامه عليها تجددت.
وقع لقمان أسيرا في أيدي بعض اللصوص تجار الرقيق فبيع في أسواق النخاسة رقيقا مملوكا, وأضحى فاقدا لحرية الإرادة والاختيار والتصرف.
وكانت هذه الحادثة أولى التجارب الإنسانية التي عاشاها وتفجرت من خلالها حكمته وانبثقت منها كالفجر السافر يبدد الظلام ويقمع السواد.
كما كانت مقدمة لتحرره من القيود والأغلال التي يرسف فيها , ثم ارتقائه في مدارج المراكز الاجتماعية واعتلائه أرفع المناصب.
لقد صبر على ما هو فيه من أذى نفسي , وتحمل هوان العبودية والرق بلقب يضيء بنور الأمل , والإيمان بالله , بانتظار الفرج.
وفي يوم طلب إليه سيده أن يمضي بشاه فيذبحها ويأتيه بأخبث ما فيها ...
فخرج
لقمان بالشاه, وقام بما عهد إليه وعاد إلى سيده بقلب شاه ولسانها.. فتبسم
السيد في وجه لقمان وأدرك المغزى والمعنى, ثم زاده قربا ومحبة.
وبعد
مضي عدة أيام طلب إليه السيد أن يذبح شاه أخرى ويأتيه بأطيب ما فيها ,
ففعل لقمان ما طلب منه ثم حمل إلى السيد القلب واللسان أيضا!!
وهنا نظر السيد إلى لقمان في دهشة وعجب , ثم سأله عن سر ذلك التصرف وكيف يكون القلب واللسان الأطيب والأخبث في آن واحد!!
وسواء كان هذا امتحانا من السيد أم غير ذلك فإن حكمة لقمان في الإجابة قد ظهرت جلية , إذ قال:
- إنهما يا سيدي أطيب شيء إذا طابا , وأخبثه إذا خبثا.
فارتفعت مكانه لقمان عند سيده إذ تحول عن معاملته معاملة البعد الرقيق ثم ظل على تلك الحال حتى أذن الله بالفرج وتحرر لقمان ...
ذاع صيت لقمان وانتشر في كل مكان وعرف عنه القول الصائب والرأي الحكيم والتدبير السليم.
وطوحت به الأيام شرقا وغربا , متنقلا في أرجاء الأرض , إلى أن استقر أخيرا قاضيا في بني اسرائيل في زمن (( داوود عليه السلام)) ...
فأعطى
من ذوب عقله وصفاء سريرته ونقاء ضميره أرفع الأمثلة في الحكمة وفصل
الخطاب, وفض المنازعات فأزداد شهرة وارتفاع مكانة وعلو مقام واحتراما.
وتزوج لقمان وأنجب...وكانت أولى واجباته الأبوية: التربية الصالحة , بالتوجيه السليم, والنصيحة الخالصة.
فما عقل ابنه بكره وصاه بما رواه لنا القرآن الكريم في العقيدة والسلوك.
أما
على صعيد العقيدة فقد نصحه بإخلاص العبودية لله وحده وعدم الشرك لأنه ظلم
عظيم , للذات والمجتمع.. ونبهه إلى أصول وقواعد العلاقة بين الولد وأبويه
إن كانا مشركين وجاهداه على أن يشرك مثلهما,...
وبين له بعض الحقائق
الأزلية الكونية ليربطه بالله وحده , فالرزق والقدرة والسلطان المطلق كلها
بيد الله سبحانه وتعالى وليس للأبوين ولا لغيرهما من أهل الأرض أي سيطرة !!
وهكذا يترك لقمان بصماته في التاريخ من خلال هذه النصائح الغالية ويطويه الزمن بردائه ويغيبه في جوفه